1223870
1223870
روضة الصائم

حرف وصناعات : صناعة الدواء

22 مايو 2019
22 مايو 2019

إعـــــــــداد: حمادة السعيد -

هذه الحلقات المكتوبة إنما هي إشارات سريعة وعاجلة، للفت الأنظار إلى قضية مهمة في زمنِ البطالة لتوجيه أنظار الباحثين عن العمل إلى المهن والحرف وعدم احتقارها أو التهوين من شأنها، فلقد حثّ الإسلام على العمل أيًّا ما كان نوعه، شريطة أن يكون بهذا العمل نافعًا لنفسه والآخرين غير ضار لأحد، ويكفي هؤلاء الذين يعملون بالحرف والصناعات شرفا وفخرا وعزة وكرامة أن أشرف خلق الله وأفضلهم وهم الأنبياء والرسل قد عملوا بحرفة أو امتهنوا مهنة.

ولقد أشار القرآن الكريم في آياته إشارات واضحة ومباشرة أو ضمنية تفهم في مجمل الآية إلى بعض الحرف والصناعات كذلك حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك وحين يشير القرآن تصريحا أو تلميحا إلى أمر ما فهو أمر مهم وعظيم فالقرآن لا يتحدث إلا عما فيه سعادة وصلاح حال البشرية ومن الحرف التي أشار إليها القرآن الكريم في آياته هي مهنة صناعة الدواء وهي من أهم الصناعات وأجلها لأنها تتعلق بحياة المواطنين ولذا حثّ عليها الإسلام ودعا إلى تعلمها حتى لا تكون صحة المسلمين مرهونة بما ينتجه غيرهم.

يقول الباحث الإسلامي أنس قصار عن الصناعات الدوائية: لقد أشار القرآن الكريم إلى العسل كمادة علاجية يتحقق بها الشفاء فقال : «وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ ثُمَّ كُلِي مِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلا يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِهَا شَرَاب مُخْتَلِف أَلْوَانُهُ فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاس إِنَّ فِي ذلكَ لَآيَةً لِقَوْمِ يَتَفَكَّرُونَ» (سورة النحل 68-69 )، وتلك دعوة صريحة على استخدام عسل النحل في الشفاء وهو ما تقوم عليه بعض صناعات الأدوية والتي تقدم غذاء ملكات النحل في كبسولات ، وقول رسوله صلى الله عليه وسلم : «تداووا عباد الله فإن الله لم يضع داء إلا وضع معه شفاء إلا الهرم» (حديث رواه بن ماجة). وفيه دعوة صريحة لتعلم حرفة الطب وكذلك تعلم صناعة الدواء.

جاء في «الأساس في التفسير» لسعيد حوّى حول كون عسل النحل فِيهِ شِفاءٌ لِلنَّاسِ «بتصرف»: قوله تعالى عن العسل: فِيهِ شِفاءٌ لِلنَّاسِ» يقول ابن عباس قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «الشفاء في ثلاثة: في شرطة محجم، أو شربة عسل، أو كيّة بنار، وأنهى أمتي عن الكي». وروى البخاري ..عن جابر بن عبد الله قال: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: «إن كان في شيء من أدويتكم- أو يكون في شيء من أدويتكم- خير: ففي شرطة محجم، أو شربة عسل، أو لدغة بنار توافق الداء وما أحب أن أكتوي». ورواه مسلم من حديث عاصم بن عمر بن قتادة عن جابر به. وروى الإمام أحمد.. عن عقبة بن عامر الجهني قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «إن كان في شيء شفاء: فشرطة محجم، أو شربة عسل، أو كية تصيب ألما وأنا أكره الكي ولا أحبه». وروى الإمام ابن ماجة القزويني في سننه عن ابن مسعود قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «عليكم بالشفاءين: العسل والقرآن». وهذا إسناد جيد تفرّد بإخراجه ابن ماجة مرفوعا.. بمناسبة الكلام عن النحل والعسل نقول: إن الكتب التي ألفت عن عجائب النحل ومملكته في عصرنا لا يمكن إحصاؤها، والكتب والمقالات التي كتبت عن الاستطباب بالعسل لا تكاد تحصى، وقد ألفت في ذلك رسائل جامعية وصدرت أبحاث علمية طبية عن جهات متخصصة كثيرة في هذا العالم، بحيث أصبح محل العسل في العلاج الطبي مشتهرا شهرة تبلغ حدّ البديهية في كل مكان في العالم، وندر أن تدخل مكتبة من المكتبات إلا وتجد فيها كتابا عن العسل والنحل».

وإذا كانت آيات القرآن وأحاديث النبي صلى الله عليه وسلم تشير إلى استخدام العسل كشفاء ففيه إشارة ضمنية إلى أهمية الصناعات التي تقوم عليها ومنها صناعة الدواء التي هي من عصب الحياة لتعلقها بالصحة والتي بدونها لا يكون هناك إنتاج لأن العقل السليم في الجسم السليم.

وجاء في كتاب«التَّنويرُ شَرْحُ الجَامِع الصَّغِيرِ»لمحمد بن إسماعيل الحسني :«تداووا عباد الله، فإن الله تعالى لم يضع داءً إلا وضع له دواء غير داء واحد: الهرم»..(تداووا عباد الله) وصفهم بالعبودية إيذاناً بأن التداوي لا يخرجهم عن التوكل الذي هو من لازم العبودية وإعلاماً بأنهم مع تداويهم لا يخرجون عن الاتصاف بالتوكل الذي هو لازمها. (فإن الله تعالى لم يضع داءً إلا وضع له دواء) وأخبرهم أن لكل داء دواء تمشيطاً لهم في طلب الدواء وأنه أمر قد أوجده الله تعالى وأذن باستعماله وقوله: (غير داء واحد) قال العكبري: لا يجوز في غير إلا النصب على الاستثناء من داء، وأما. (الهرم) فيجوز رفعه بتقدير هو وجره على البدل من داء والنصب بإضمار أعني الهرم، فجعل الهرم وهو الكبر داء تشبيها بالداء لأنه يعقبه الموت كما قاله البيضاوي.

وقال سراج الدين أبو حفص المعروف بـابن النحوي في «عجالة المحتاج إلى توجيه المنهاج»: ويهدف الإنسان فِي التداوي إلى حفظ الصحة بما يعينه على القيام بالتبعات الشرعية وتحمل مسؤولياتها بكفاءة عالية ونشاط، وإلى حفظ الصحة أَشَارَ القرآنُ الكريمُ قوله تعالى: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} [البقرة: 184] وذلك أن السفر مظنة النصب وهو من مغيرات الصحة، فإذا وقع فيه الصيام ازداد، فأرخص الله للمسافر الفطر إبقاءً على الجسد وحفظاً للصحة والله أعلم. وكذلك الاحتماء عن المؤذي جاء فِي قوله تعالي: {وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا (29) وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ عُدْوَانًا وَظُلْمًا فَسَوْفَ نُصْلِيهِ نَارًا} [النساء: 29] ومنه استنبط العلماء جواز التيمم عند خوف استعمال الماء البارد، وهذا ما يخالف الإسلام به دين الترهب والتقشف فِي معتقدات الأديان الأخرى، بأن يضعفوا قواهم الجسمية حتى تقوى فيهم الناحية الروحية، فنجد الإسلام يحث على الشدة والقوة.

ثم كذلك يحصل التداوي كالجراحة أو العقاقير أو ما إلى ذلك؛ وجاء فِي هذا المعنى فِي أن الأصل إزالة الأذى؛ وقوله تعالى: {أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ} [البقرة: 196] والمرض عارض طارئ على الإنسان من جراء اضطراب عملية اهتدائه، فشفاؤه بالاتباع أي اقتفاء أثر الرسول؛ وإذا كان مرضه من سقم وهو علل الجسم وطوارئه، فقد جعل الله فِي التداوي سبيلاً للشفاء بإذن الله. فجعل الله إطعامه للإنسان بما أحل له من الطيبات وحرم عليه الخبائث؛ وجعل شفاءه للإنسان المريض بما أحل له من الدواء وحرم الخبيث (أي السم) وبين رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن فِي الطب خيراً فقال: [ما أنزل الله داءً إلا أنزل له شفاءً].

ولقد حث الشارع الناس على التداوي، فقال عَلَيْهِ الصَّلاَةُ وَالسَّلاَمُ: [تَدَاوَوْا] عن أسامة ابن شريك؛ قال: شَهِدْتُ الأَعْرَابَ يَسْأَلُونَ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم -: أَعَلَيْنَا حَرَجٌ فِي كَذَا؟ أَعَلَيْنَا حَرَجٌ فِي كَذَا؟ فَقَالَ لَهُمْ: [عِبَادَ اللهِ! وَضَعَ الله الْحَرَجَ إِلاَّ مَنِ اقْتَرَضَ مِنْ عِرْضِ أَخِيْهِ شَيْئاً. فَذَاكَ الَّذِي حَرَجٌ ، فَقَالُواْ: يَا رَسُولَ اللهِ! هَلْ عَلَيْنَا جُنَاحٌ أَنْ لاَ نتَدَاوَى؟ قَالَ: [تَدَاوَوْا، عِبَادَ اللهِ! فَإِنَّ الله سُبْحَانَهُ لَمْ يَضَعْ دَاءً إِلاَّ وَضَعَ مَعَهُ شِفَاءً إِلاَّ الْهَرَمُ].

فهذا هو هدي نبينا الذي دعا إلى تعلم صناعة الدواء بكل ما فيها.. فمن اتبع هذا الهدى عاش كريما وكفى بصاحب الحرفة فخرا أن أفضل خلق الله وهم الأنبياء والرسل كانوا يأكلون من عمل يدهم وقد عملوا بحرفة أو امتهنوا مهنة.